كتب حسن عصفور :لم تنته بعد “مفاعيل عملية ايلات” العسكرية في الداخل الاسرائيلي، رغم ما يبدو من إتفاقات أوصلت الى تفاهمات حول “تهدئة” مع قطاع غزة، رغم وجود خروقات لن تنتهي من قبل دولة الاحتلال، فنتائج “عملية ايلات” السياسية – الأمنية تفوق بأهميتها ما هو ظاهر على سطح المشهد السياسي، وبعيدا عن الرفض أو التأييد لتلك العملية، لكن ما نتج عنها وما سيكون لاحقا يشكل تطورا يستحق القراءة المتأنية دون مواقف مسبقة كما جرت العادة لدى بعض الساسة تجاه اي عملية تحدث ضد دولة الاحتلال، وكأن الإدانة باتت فرضا من فروض الطاعة والولاء، لكن العملية الأخيرة جاءت في سياق مختلف تماما، من حيث الزمن والمكان والدلالة، وما حدث لاحقا يشير دون أدنى تردد ان اسرائيل والطغمة الحاكمة بها، أجبرت على ولوج منعطف لم يكن جزءا من سلوكها التقليدي في فترات سابقة..
كان متوقعا ان يكون رد الفعل الإسرائيلي ضربة عسكرية واسعة ضد قطاع غزة، لا تصل طبعا لاحتلال أو ما شابهه، بل استمرار قصف وتدمير واغتيالات قدر المستطاع كترضية أمنية لسكان اسرائيل ، وتوجيه رسالة ارهاب الى الضقة الغربية، عله يساهم في قطع الطريق على ما يمكن أن يكون من “إنفجار شعبي” في شهر سبتمبر القادم، لكن سرعة الاستجابة الاسرائيلية بالموافقة على “تهدئة ما” يؤكد أن هناك عوامل مستحدثة أدت الى هذه النتيجة غير المتوقعة، وقد أظهرت تطور الأحداث مدى الأثر الأمريكي على قرار دولة الاحتلال، وأن القرارات المصيرية في المنطقة لا تخضع لنزوات ورغبات قادة دولة الاحتلال، وهو ما يخالف كليا تلك النظرة السائدة عربيا، بأن تل أبيب وعبر اللوبي اليهودي – الصهيوني هو صاحب الاثر الكبير، ودون الخوض في نقاش تلك القضية الفكرية – السياسية، إلا أن الأساس اليوم ما برز من أثر أمريكي في قرار حكومة نتنياهو الأخير بالتزام الهدوء الأمني – العسكري، وبين أبرز الأسباب التي أدت لهذا هو الموقف المصري، خاصة رد الفعل الشعبي تجاه القتل العمد والاستخفاف الاسرائيلي في التعامل مع مقتل الجنود المصريين، ما ادى لوضع العلاقة مع تل أبيب على مسار مختلف لم يكن له مكان في المشهد السياسي المصري ما قبل التغيير الثوري، ورغم ان المسألة توقفت عند حدود معينة من الفعل المصري، ولم تصل الى سحب السفير ووضع العلاقات الثنائية على طريق الانهيار، الا أن مصر الشعبية – الرسمية ربما تحدث حراكا كان نائما ضد معاهدة كامب ديفيد، وفتح الجدل السياسي حول ضرورتها، وهو ما يشكل “كارثة استراتيجية” للسياسة الأمريكية أولا ومن ثم لدولة الاحتلال، حتى لو لم تصل مصر الرسمية الى قرار حول المعاهدة ، إلا أن النقاش قد يجبر القوى السياسية المصرية الذاهبة للانتخابات القادمة أن تضعها بندا سياسيا جاذبا وزيادة “الغلة التصويتية”، فعل جديد لمشهد جديد، الا أن ما حدث لا يمكن أن يتم تجاهله مع قادم الأيام، وهو ما قرأته جيدا دوائر صنع الاستراتيجية في واشنطن، لذا سارعت بالقيام بجهد خاص لعدم التدهور أكثر..
وجاء تزامن توقيت العملية العسكرية مع “أحداث” ليبيا الأخيرة الإنتهاء من حكم العقيد القذافي، رغم “حرارة روح التمسك بالحكم” الكامنة عنده وبقية افراد عائلته، ليساهم في تقييد اليد الاسرائيلية ” الطويلة” وتكبيلها، فأي تطوير لحرب أو فعل عسكري ضد قطاع غزة، كان سيشعل حرارة الفعل الشعبي العربي ضد امريكا – اسرائيل، وقد تنجرف الحركة الشعبية العربية لمنحنيات لا تتوافق مع مخططات “الناتو” في اللحظات الحرجة التي تشهدها المنطقة، لوضع نهاية للحرب العسكرية الأطلسية فوق ليبيا بعد ان وصلت المسألة الى وضع حرج جدا، خاصة وأن “المسألة السورية” بدأت تشهد مسارا متسارعا في تطورها بعد ما حدث داخليا وعربيا، وبدء الحصار السياسي للنظام الحاكم في سوريا، ما يجبر واشنطن وتحالفها الأطلسي – التركي والعربي بضرورة التركيز والتفرغ لتطور الوضع في سوريا، وهذا لن يكون في ظل استمرار الوضع الليبي كما كان عليه قبل “الحسم العسكري” في طرابلس وباب العزيزية، ولا يمكن لواشنطن أن تقوم بما يجب القيام به لو أن الطغمة الفاشية الحاكمة في تل أبيب مارست شهوتها العدوانية ضد قطاع غزة، وما يمكن أن تجلبه تلك الفعلة العدوانية من رد فعل غير محسوب العواقب، ليس شعبيا فحسب بل عسكريا ايضا بفتح جبهة على الحدود السورية واللبنانية، حسابات مركبة جاءت في سياق الحساب الأمريكي لفرض الموقف على اسرائيل وتكبيلها بطريقة أظهرت كم هي مخزية الغطرسة الفارغة الاسرائيلية..
ومع أن “خيار التفجير العسكري” على الجبهة السورية – اللبنانية لم ينته بعد، لكن غياب العدوان الاسرائيلي قد يمنحه بعض الوقت كي تعيد واشنطن وحلفها العام دراسة الخيارات الممكنة لاحقا لتطويق سوريا وحكمها، والعمل على قراءة سياسية للملفات المتشابكة التي ستفرض نفسها على الواقع العربي والفلسطيني، خاصة وأن الحراك ، رغم كل مطباته الصناعية لم ينهزم، بل التقديرات أن هناك جديدا قادما في أكثر من بلد ومكان، ولا شك أن ملف فلسطين وخاصة بعد سبتمبر – ايلول سيكون من الملفات الساخنة جدا امام الادارة الأمريكية .. مع أن البعض يعتقد أنه لا يستحق كل تلك “الضجة السياسية” التي تدور عنه وحوله، لكن دوائر القرار الأمريكي – الاسرائيلي ترى ما لايراه بعض أولئك من اثر نتائج القرار الفلسطيني لو استمر لنهايته، فالمسرح العربي بات يحتمل كل الاحتمالات الممكنة التي قد تخرج عن “نطاق الطاعة التقليدية” ..
الحسابات الجديدة التي جاءت بها “عملية ايلات” تمنح الشعوب العربية، وبداية الشعب الفلسطيني فرصة لم تتوفر له منذ سنوات لكسر الهيبة الاحتلالية من خلال رؤية تكاملية لفعل كفاحي يعيد الصورة المشرقة التي رسمتها الثورة الفلسطينية المعاصرة، وهذا يشترط أولا وضع نهاية حقيقية وليس كلامية للإنقسام الوطني كي يتم صياغة رؤية مشتركة وطنية لمواجهة المحتل المرتبك والضعيف، ولعل الفرص لا تتكرر كثيرا في زمن لا تزال واشنطن وحلفها متحكما في تسيير واقع عربي.. وستبقى “عملية ايلات” الأخيرة بابا من ابواب كشف “الجبن الاسرائيلي المستحدث”..
هل يمكن للقيادة الفلسطينية بكل أطيافها أن تدرك ذلك بعيدا عن “الحسابات الحزبية الضيقة” .. سؤال برسم الانتظار لمن يتحدث دوما عن “المصلحة الوطنية الفلسطينية”..
ملاحظة: هناك اجماع على معرفة المهزوم في ليبيا .. لكن لا وجود له على من هو المنتصر فيها.. مسالة قيد المناقشة لاحقا..
كتبت المقالة بتاريخ 25-08-2011