كتب حسن عصفور/ تغاضى المشهد العربي عن كيفية صعود حزب العدالة والتنمية في تركيا لسدة الحكم بعد فوزه “المفاجئ” في الانتخابات البرلمانية، واعتبرها بعض الساسة أنها “شأن داخلي”، ولا ضرورة للبحث في كيفية حصول حزب منشق عن الحزب الاخواني “الأم” على فوز ساحق خلال فترة تبدو قياسية، لأن المسألة الرئيسية للعرب، خاصة القوى السياسية هي رؤية حزب يتعاطف مع قضاياهم الخاصة، رغم المعرفة المسبقة أن تركيا “حليف استراتيجي لاسرائيل” وان “التعاون الأمني الاستخباري بينهما” يفوق كل حدود المعقول، وتركيا أبرز شريك لحلف الناتو وأن جيشها هو الثاني من حيث العدد من جيوش الناتو..بل أن سوريا الدولة والنظام وقوى قومية عربية تخلت عن اعتبار أن “لواء الاسكندرون” لواءا عربيا مغتصبا من تركيا، في ظل حسابات الصفقة التركية مع الرئيس الأسد الأب..
كان الابتعاد عن كل ذلك رغبة في فتح صفحة جديدة مع تركيا الأردوغانية، خاصة وأن الرسالة التركية الجديدة تعاملت مع المنطقة العربية بانفتاح ورؤية مختلفة، واولتها الاهتمام الخاص، وكان أبرز ما ميز السياسة التركية في المرحلة الماضية هو ابتعادها كليا عن استخدام “النموذج الايراني” في التعامل مع المنطقة العربية، الذي عبرت عنه رغبة فارسية في التدخل بالشأن الداخلي للدول العربية واصرار لا سابق له باستخدام النزعة الطائفية في بعض المناطق لتمرير رؤيتها الخاصة، فايران وبعد استقبال ثورتها استقبالا شعبيا غير مسبوق، انكفأت للتصرف كدولة صاحبة مشروع قائم على نزعة فارسية، بلغة ثورية اسلامية، ونجحت في البداية بتحقيق تضليل عام، بل واختلف العرب قوى وأنظمة على الموقف منها، لكنها لم تتمكن من احداث حالة إختراق حقيقية الا في سوريا ، وفي فلسطين من خلال حركة حماس، التي استخدمتها ايران كحصان طروادة لمشروعها الخاص، وقدمت لها كل ما ساعد على بناء حماس “الجديدة”، في حين كان حزب الله رأس الحربة الشعبي لذلك الاختراق..
تجربة ايرانية مريرة لا تزال لم تستنج قيادة ايران اخطاءها ومصائب سياستها، ويبدو ان تركيا استفادت في بدايتها من تلك الحساسية العربية، فتصرفت تصرف “دولة صديقة” بل و”شقيقة” في احيان عدة، ابتعدت عن أي قضية تثير المخاوف أو الحساسية العربية، حتى في مسألة احتلال العراق أظهرت وكأنها ليست جزءا من آلة الحرب الاميركية الاحتلالية، ما منحها “مصداقية سياسية” سريعة عربيا، وبدأت في التصرف كدولة وليس كمشروع، ما اكسبها سريعا حضورا في المشهد العربي، حتى أن الرئيس السوري بشار الأسد وصل الى مرحلة للتخلي عن “موقفه العروبي” لتأييد تدخل عسكري تركي في العراق، ما يتنافى كليا مع أي موقف قومي، لكن تطور العلاقات “بينهما” ولعب اردوغان وتركيا “دور الوسيط الفاعل” بين اسرائيل وسوريا، حتى أن اردوغان نجح فيما فشل فيه الجميع بأن يرتب محادثة هاتفية بين أولمرت وبشار الأسد، كان مفسرا للموقف الاسدي..
وعرفت تركيا كيف تستغل المشاعر العربية ضد دولة اسرائيل، فلعبت بكل “ذكاء” على وتر تلك الحساسية، مستخدمة اللغة العاطفية الى الحد الأعلى، وخلال الحرب العدوانية على غزة نهاية عام 2008 أظهرت تركيا “موقفا سياسيا” حادا ضد العدوان، وطالبت بمحاسبة اسرائيل، وكثفت الى حد بعيد من لغتها المنددة والمستنكرة والمطالبة العالم باجراءات، دون أن تتقدم بخطوة عملية جادة ضد اسرائيل.. لكنها نجحت عبر اللغة العاطفية من استغلال المشاعر العربية والحساسية العاطفية تجاه اللغة والشعارات..
تركيا حضرت بقوة في المشهد العام، باعتبارها جارة صديق وشقيق ديني، ساعدها سنيتها أيضا في مقابل ايران الشيعية، كما حاولت بعض قوى “الاسلام السياسي” ترويج ذلك، وبلا شك حقق بعض مما تريده تركيا دون اعلان.. المقارنة والمقاربة في تلك المرحلة انحازت بقوة الى “الجار التركي الودود” فيما هجرت ايران الجار المشاكس، وانعكس ذلك على حركة اقتصادية وسياحية غير مسبوقة مع تركيا، وتوجهت استثمارات عربية بعشرات المليارات الى السوق التركي، فيما كانت البضائع التركية تحتل قسما كبيرا من السوق العربي، وباتت تركيا “قبلة سياحية عربية”..
وساعد النظام التركي في تحقيق ذلك “الاختراق الكبير” هو ظهوره كدولة “علمانية” يقودها حزب منتم للتيار الاسلامي، دون أن يرفع شعار “الاسلام هو الحل”، بل أن اردوغان عارض ذلك الشعار علانية خلال زيارته لمصر بعد ثورة 25 يناير وطالب أهل مصر بديل ذلك بشعار “العلمانية هي الحل”، مما جلب له غضبا اخوانيا واسعا..وطالبه عصام العريان ان يغادر وان لا يتحدث فيما لا يفهم..
ولكن ومع الحراك في سوريا انقلبت كل الحسابات، وكشفت تركيا الأردوغانية عن وجه استعماري كامن، واظهرت أنها صاحبة مشروع خاص للسيطرة على المنطقة كبديل للقوى الاستعمارية القديمة، وبدلا من استغلال علاقتها الايجابية جدا بالنظام السوري للبحث عن مخرج ديمقراطي للأزمة، سارعت الى التحضير لبدء عمل عسكري بجلب جماعة الاخوان وتدريبهم وتسليحهم، اعتقادا منها أن النظام سيسقط سريعا بعد تدخل اطلسي كما حدث في ليبيا، راهنت بسذاجة نادرة، ان مصير النظام السوري سيكون كمصير الليبي، وأن الاسد كالقذافي، ولذا حاولت ان “تقطف ثمار الحرب مبكرا”..
ليس مطلوبا استعراض كل الحماقة التركية في الأزمة السورية، لكن الخلاصة الأهم هي أن تركيا قبل الأزمة كانت بلدا حاضرا بقوة، وكما اراد وزير خارجيتها وعقلها المفكر كما يقال ، دولة بـ”صفر مشاكل” مع الجوار، لكنها مع نهاية الأزمة السورية وصلت الى “صفر دور” في المنطقة..تركيا اليوم ، وبعد موقفها العدواني من الثورة المصرية التي أسقطت الحكم الاخواني، لها كراهية ربما تفوق كراهية العرب للمشروع الفارسي، الغطرسة الأردوغانية اضاعت كل المكتسبات التي تحققت لتركيا..ويبدو أن الانكفاء للداخل سيصبح سمة تركيا القادمة لسنوات قبل ترميم علاقات قد تتطلب ازالة مسببات التدهور الكبير..
تخيلوا..تركيا قبل الأزمة السورية وحماقة قادتها بع ثورة مصر في 30 يونيو، كانت تفتخر بنمو علاقاتها عربيا، في كل مناحي الحياة العامة..اليوم اردوغان يفتخر بعدد من يبلسن الحجاب في البرلمان..4 او 5 من مئات..اي نهاية لمشروع كان له أن يكون حاضرا بقوة ضمن علاقة متزنة، وليس بغطرسة تذكرنا بغطرسة الخليفة العثماني الذي تحالف مع المستعمرين لاسقاط حكم مصر خلال ولاية محمد علي.. وهو ما يقوم به اردوغان راهنا..تآمر مع المستعمرين لاسقاط ثورة مصر الناهضة..تركيا أردوغان لن تكون رقما في أي معادلة عربية لاحقا..بسبب الغطرسة والتكبر حازت على “صفر كبير”..ولتنتظر الى أن يأت حكم جماعتها لتمرير مشروعها..تركيا الدور”باي باي”!
ملاحظة: فتح تقول ان “الاستيطان يدمر السلام”..يا سادة لماذا تفاوضون اذا.. لو لم تكن هناك “صفقة خاصة”..انسحبوا وتراجعوا..مش عيب والله الانسحاب من بئر الفضيحة!
تنويه خاص: مرت ذكرى وعد بلفور هادئة جدا في الضفة الغربية سوى من بيانات بلا أي مغزى..زمان كانت ذكرى “الوعد المشؤوم” يوم غضب مدرسي وشعبي وسياسي..ولكن لكل زمن رجال وقادة وطبعا ..طريقة!