كتب حسن عصفور/ استفزت التصريحات الاسرائيلية ضد الرئيس محمود عباس غالبية شعبية فلسطينية باعتبارها تشكل “تهديدا” للرئيس على رفضه المعلن لقبول ما تريدة الطغمة الفاشية الحاكمة في دولة الكيان، واشاعت التسريبات التي تقوم بها أوساط مقربة من الرئيس “أجواءا تفاؤلية” بأن نهاية “العبثية السياسية” عبر المفاوضات القائمة منتهية لا محالة، واستنفرت حركة فتح كل وسائلها لتناشد الوقوف الى جانب الرئيس عباس ضد “الحملة الصهيونية المشبوهة والمعادية”، وساد الظن أن مرحلة سياسية جديدة تطل على المشهد الفلسطيني تكتسب روحا “تمردية” على السكون والخيبة التي استمرت أشهرا بل سنوات..
ولكن يبدو أن هناك دائما من يصر على قطع طريق “الأمل السياسي” بحدوث حركة فعل ايجابية لقيادة عملية اعادة الروح الكفاحية ضد المشروع الاحتلالي، وكأن هناك من يعمل قاصدا ومتعمدا على استمرار الارباك والخنوع في الساحة الفلسطينية، فلم تمض أيام على تهديدات وزراء حكومة نتنياهو ضد الرئيس عباس حتى وصلت لكبيرة مفاوضيهم لتطلق تصريحات لا تتلائم مع مكانتها الوظيفية في المفاوضات ولا حتى لإسم الحقيبة الوزارية التي تحملها “وزارة العدل”، حتى كانت “المفاجأة غير السارة” التي نشرتها صحيفة “يديعوت” على موقعها مقابلة نسبتها للرئيس محمود عباس، تضمنت كثيرا من القضايا التي لا تحدث توافقا وطنيا، بل تكرس حالة “الانشقاق السياسي” والذي كان مفروضا أن يكون أولوية للخلاص منه في الأيام القادمة في سياق مواجهة ما سيكون في اليوم التالي لنهاية “امد المفاوضات الزمني”، لكن ما جاء على لسان الرئيس يتعارض مع ما كان منتظرا لحشد الصف الوطني من اجل مواجهة الخطر الاحتلالي والتهديدات الخاصة به..
ولنقفز عن كل ما نصت عليه المقابلة ونتوقف عند أحد أهم الفقرات في المقابلة المشؤومة التي تفتح طاقة الظنون والريبة تجاه ما يجري عمليا من ترتيبات لا صلة لها بكل ما يتم تسريبه عن “صمود” ورفض لما يعرض من مواقف.. فالرئيس محمود عباس قال إنه “يوافق على انسحاب إسرائيلي تدريجي من الأراضي الفلسطينية يستمر نحو ثلاث سنوات بوجود قوات دولية قبل وأثناء وبعد الانسحاب”.. كلام لا يقبل التأويل ولا الاجتهاد، محدد ومباشر ومختصر بحيث لا يسمح لأي كان بالقول أنه يقصد به كذا وكذا..
هذا المختصر الكلامي يؤدي مباشرة لقبول “حل انتقالي” جديد، تحت مسمى “الانسحاب التدريجي” مهما اضيفت له لاحقا من “محددات تبدو وكأنها تمنحه ىالقوة والصلابة” لكن المواقف لا تقاس ببلاغتها اللغوية لكنها تؤخذ بحقيقة نصها، وكلام الرئيس عباس هنا غاية في الوضوح لا يمكن أن يقال حدث “سوء فهم والتباس وخروج عن السياق المقصود”..كان الرئيس دقيقا جدا في المصطلحات بأنه يقبل بانسحاب تدريجي لتنفيذ ما يتفق عليه على مدار 3 سنوات، مع طلبه قوات دولية قبل وبعد البدء به..
هل يمكن أن لا يرى أي فلسطيني أن هذه التصريحات تتفق مع ما يريده الطرف الأميركي بالتوصل الى اتفاق اطار انتقالي لمدة محددة، وهو ما يمنح الحق لدولة الكيان ان تستخدم تلك الحالة الانتقالية لتعبث بكل ما يمكن الاتفاق عليه، وهل يعتقد الرئيس عباس ومن يؤيده في هذه النظرية السياسية الانتقالية بأن مثل هذا الاتفاق سيكون مقبولا وطنيا، وقبل ذلك أي قدرة يمكنها أن تجبر نتنياهو على تطبيق ما يتفق عليه خلال فترة الاطالة الزمنية المقصودة في مقابلة الرئيس عباس مع وفد اسرائيلي ذو خلفية أمنية..
المسألة لا تتعلق بـ”حسن النوايا” التي يمكن أن يقال عنها في تصريحات كهذه بل في أنها تشجع نتنياهو أولا وكيري ثانيا بالضغط لانجاز “حل مرحلي” جديد يضع نهاية كارثية للمشروع الوطني الفلسطيني، ويقطع الطريق على كل “البدائل” التي تحدثت عنها قيادات فلسطينية قبل أيام لا أكثر، والبحث في “خيارات اليوم التالي” لنهاية المدة الزمنية للمفاوضات..هل يعتقد البعض المرحب بحل انتقالي جديد بمسمى “الانسحاب التدريجي” أن واشطن وتل أبيب لن تستغل هذه “الفرصة الذهبية” التي قدمها الرئيس عباس لهم..
ولأن القضية لم تعد تسجيل ملاحظة أو معارضة لكثرة ما تم تسجيله سابقا، لكن ما تقدم ليس سوى تأكيد أنه لا يوجد تعلم من التجربة السابقة بعد توقيع اعلان المبادئ – اوسلو في واشنطن عام 1993، ذلك الاطار الذي حدد فترة 5 سنوات للتوصل لـ”تسوية تاريخية” وانهاء الاحتلال.. ولم تكتف دولة الكيان بعدم الالتزام بزمن التفاوض المحدد بل عملت كل ما هو ممكن لالغاء جوهر الاتفاق المحدد..
الحديث عن انسحاب تدريجي لأي اتفاق مع طغمة نتنياهو الفاشية يؤكد أنه لا زال هناك من يصر على عدم معرفة حقيقة هذه الطغمة بعد، ولا زال مراهنا على أن امريكا “وسيطا نزيها” “محايدا”، وليست طرفا راعيا وحاميا للمشروع الاحتلالي رغم كل التجارب والشواهد السياسية التي لا يمكن لجاهل ان يتجاهلها..
باختصار شديد قال أجدادنا وبحق أن “اللي بيجرب المجرب عقله مخرب”..فلا تجربوا ما جربتم!
ملاحظة: وكأننا بدأنا رحلة “السيسية السياسية”..ما أن اعلن عن ترقية وزير الدفاع المصري الى رتبة مشير حتى عاشت مصر ومعها المنطقة بداية رحلة في مشوار جديد بدأه الكاتب الكويتي احمد الجارلله بتسميته بـ”السيسية”!
تنويه خاص: هناك لغط سياسي منتشر عن “ريبة رسمية أردنية” من القيادة الفلسطينية وتفاوضها..رغم كل ما يقال علنا..مسألة تحتاج توضيح جدي وجاد!