كتب حسن عصفور/ لا زالت عملية “خطف قطاع غزة” مستمرة منذ عام 2007، لكن عملية الخطف بدأ التجهيز لها سياسيا قبل ذلك بسنوات ومرت عبر مراحل مختلفة، وفي الكتاب الأخير الذي صدر بعنوان “حماس وخطف غزة – ملاحظات سياسية” تم الاشارة للمراحل التي أدت الى الخطف، وسيتم نشرها تباعا:
**الخلاص من ياسر عرفات
– المرحلة الأولى
ما أن وصل الزعيم الخالد ياسر عرفات والوفد الفلسطيني الى فندق” ريتز كارلتون” في العاصمة الأميركية، واشنطن، قادما من منتجع “كمب ديفيد” حيث انعقدت القمة الثلاثية عام 2000، حتى جاءت الأنباء عن قيام رئيس الوزراء الاسرائيلي في حينه يهود براك، وبحضور الرئيس الأميركي كلينتون، باطلاق تصريحات اعتبر فيها، أن ياسر عرفات لم يعد “شريكا في عملية السلام”، تصريح يمكن اعتباره الاعلان الرسمي الأول بتدشين الحملة الرسمية لـ”إزاحة احد أهم العقبات” من أمام تنفيذ المشروع الأميركي – الاسرائيلي، وجاء زمان ومكان التصريح كرسالة غاية في الوضوح ان هناك مرحلة صدام صعبة جدا قادمة على السلطة الوطنية ورئيسها أبو عمار..
تصريحات كهذه من مسؤول بموقع براك وبمشاركة كلينتون لا تأت من باب “التهديد الكلامي”، كما هي بعض التصريحات الفلسطينية في مراحل معينة، بل جاءت لتدشن رحلة الخلاص من ياسر عرفات بكل ما يرمز اليه من تمثيل سياسي وموقف وطني، والمفاجأة في أن التصريح جاء مخالفا لما تم الاتفاق عليه في كمب ديفيد، بعدم القيام باعلان أي مواقف سياسية تعلن فشل التفاوض، من أجل كرامة الرئيس الأميركي والانتخابات المقبلة، خاصة وانه تم الاتفاق على استئناف عملية التفاوض في الاسابيع المقبلة، بين وفدين مصغرين لكل طرف، بمشاركة أميركية استنادا الى “وثيقة كلينتون”، لكن الاعلان الباراكي جاء ليطلق “رصاصة الانطلاق” لمخطط تصفية الرئيس ياسرعرفات ومعه تصفية جوهر عملية السلام التي كان يفترض أن تتجسد من خلال معادلة “الانسحاب مقابل السلام”..
ومع ان الطرفين التقيا لاحقا في جولات تفاوضية مصغرة وغير معلنة بعد هذا التصريح الخطير، إلا ان “مؤامرة التصفية” دخلت في الجانب العملي، عندما اتفق براك وشارون على قيام الأخير بزيارة الى الحرم القدسي، وهو يعلم تماما ان مثل تلك الزيارة لن تمر بسلام ابدا، ورغم كل الاتصالات الثنائية مع الجانب الاسرائيلي والأميركي لوقف تلك “الزيارة”، لما ستحدثة من تدهور خطير في الجانب السياسي والأمني، إلا أن شارون اصر على الزيارة بحماية غير مسبوقة من قوات الجيش والشرطة الاسرائيلية، في يوم 28 سبتمبر2000، وبالمصادفة التاريخية يصادف ذات اليوم مرور 5 سنوات على توقيع الاتفاق الانتقالي الخاص بالانسحاب الاسرائيلي من الضفة الغربية، ذلك الاتفاق الذي سارع باغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين، باعتباره تنازل عن “أرض اسرائيل” وفقا للفكر الصهيوني المتطرف والذي كان شارون أحد أركانه الرئيسيين، ولا يمكن اعتبار أن اختيار شارون – براك لهذا اليوم صدفة لا غير، بل يمكن اعتباره “رسالة موجهة” لانهاء كل ما تم الاتفاق عليه في اعلان اوسلو وما تلاه من اتفاقيات..
**الحرب العسكرية وحصار ابو عمار
— المرحلة الثانية
وأدت الزيارة المشؤومة الى نشوب حالة غضب عارم في صفوف ابناء الشعب الفلسطيني، وانطلقت في اليوم التالي مظاهرات عارمة في القدس وداخل الحرم القدسي، واجهتها قوات الاحتلال بالرصاص الحي ما أدى لاستشهاد ما يقارب 10 فلسطينيين، وانطلقت شرارة المواجهة الشعبية لتعم ارجاء الضفة والقطاع للعدوان الأميركي – الاسرائيلي المعد مسبقا، كما اعترف لاحقا رئيس الشاباك عامي ايلون، في مؤتمر صحفي قبل انتهاء خدمته أواخر 2000، حيث أعلن أن التحضيرات للقيام بعملية عسكرية ضد السلطة الوطنية ومؤسساتها الأمنية والمدنية قد بدأت في شهر فبراير (شباط) عام 2000، اي خلال مفاوضات الحل النهائي التي انطلقت أواخر عام 1999، تصريح للأسف الشديد تاه وسط المعركة الشاملة، دون ان يلفت انتباه المؤسسة الرسمية العربية والدولية..
وبدأت الحرب العسكرية بقوة غير مسبوقة ضد الضفة وغزة، وقابلتها مواجهة شعبية انطلقت كالبركان في حالة تحدي بعد ان أدرك الشعب الفلسطينية والزعيم الخالد ابو عمار انها معركة وجود ومصير لمستقبل القضية الوطنية، ولذا التبست تسميات وصف المعركة، فغالبية أهل فلسطين إنحازوا لتسميتها “إنتفاضة الأقصى وتحرير القدس والاستقلال”، لكني شخصيا كنت اراها مواجهة شعبية لعدوان اسرائيلي – أمريكي لتصفية المشروع الوطني..ربما التسمية كان لها أن تعطي تفوقا سياسيا للطرف الفلسطيني على الصعيد الدولي لو تم الامساك بالوصف أن ما يحدث عدوانا تقابله مواجهة شعبية، ولكن تسمية الانتفاضة يظهر وكأن الفلسطيني هو الذي بادر، والواقع غير ذلك تماما..
وامتدت الحرب العسكرية الاسرائيلية واستخدمت بها كل اشكال المعدات من طائرات حربية ومروحية وقصف بلا تحديد لهوية المكان، سوى أنه يرمز للسلطة، حرب كشفت تماما انها كانت تعبيرا مباشرا لتصريح يهود براك بأن “عرفات لم يعد شريكا”.. ومع فوز شارون بالانتخابات وحزبه انطلقت الحرب الى مرحلة أكثر عنفا وشراسة، الى ان وصلت الى نقطة حصار ياسر عرفات في مقره بالمقاطعة وسط رام الله نهاية مارس ( آذار) عام 2002..
ومن باب المفارقات السياسية في فلسطين، أن شارون استخدم قيام حركة “حماس” بتنفيذ عملية تفجيرية في ناد ليلي في تل أبيب اواخر مارس – آذار عام 2002 ليبدأ المرحلة الثانية من “إزاحة عرفات” من المشهد السياسي، كما سبق له استخدام محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي بلندن من قبل جماعة ابو نضال لبدء حرب تصفية منظمة التحرير والثورة الفلسطينية في لبنان عام 1982، ومع العلم أن شارون لم يكن محتاجا لتبرير عمله العدواني ضد ياسر عرفات، إلا أن قادة “حماس” في حينه لم يفكروا الا بمصلحتهم الحزبية الضيقة، خاصة وهم يعلمون تماما بالتهديد الذي أطلقته حكومة شارون بأن اي عملية تفجيرية داخل اسرائيل سيكون الرد حصار عرفات، ولكنهم رموا بذلك عرض الحائط ومضوا في طريقهم الخاص لتعويض ما فاتهم من مشاركة في المواجهة الشعبية والتي حضروا اليها متأخرين ايضا، كما هي عادتهم منذ انطلاقتهم المتأخرة جدا في العمل الوطني وخاصة جانبه المسلح أواخر عام 1987..
استمر الحصار الاسرائيلي للزعيم الخالد ابو عمار 35 يوما، قام العرب خلالها بطرح ما عرف لاحقا بالمبادرة العربية للسلام، جاءت على خلفية مشروع وثيقة للملك السعودي عبدالله في مارس 2002، وكان الاعتقاد أن المبادرة ستكون محطة لوقف العدوان الاسرائيلي – الأميركي ألا انها لم تفعل شيئا يذكر بل ساهمت موضوعيا في ان تعبد الطريق للمرحلة الثالثة من تصفية عرفات..
**خطة بوش والاعلان الرسمي الأميركي للخلاص من عرفات
—المرحلة الثالثة
في يوم 24 يونيو (حزيران) اعلن الرئيس الأميركي جورج بوش خطته المعروفة اعلاميا بخطة “حل الدولتين”، ولكن المثير والأهم في ذلك الاعلان لم يكن البعد السياسي الخاص بالحل النهائي بين الطرفين وما سمي بـ”حل الدولتين”، بل فيما قاله بوش بالخطاب، بأن “الشعب الفلسطيني يستحق قيادة ديمقراطية أفضل من القيادة الراهنة”، كان تصريحا واضحا جدا في الدعوة لانهاء مرحلة حكم ياسر عرفات السياسية والتطلع لاستبداله بقيادة جديدة ، وقام فريق فلسطيني بتضليل الزعيم ابو عمار وطلبوا منه تأييد الاعلان والموافقة على خطاب بوش دون أن يعرف مضمونه، لعبة نصبت كمينا فلسطينيا خاصا للزعيم المحاصر من كل بقاع الأرض هو وشعبه، وفرضت حرب تجويع على ابناء الشعب الفلسطيني داخل الضفة والقطاع للضغط الشامل من اجل تحقيق هدفهم السياسي بقطع صلة الزعيم بشعبه، ومارست فئة سياسية فلسطينية لعبتها تحت خديعة “حل الدولتين”، خدعة سياسية كبرى كانت هي البداية الرسمية والصريحة من قبل الادارة الأميركية للمشاركة في تصفية ابو عمار، بشكل مباشر بعد أن قام شارون باعادة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وتم تدمير كل مؤسسات السلطة الوطنية الأمنية والعسكرية، وفرض حصار سياسي ومالي على السلطة ورئيسها الى حد التجفيف الكامل..
جاءت خطة بوش للتصفية السياسية لتستثمر العمل العسكري الذي قامت به قوات الاحتلال الاسرائيلي، والحصار الشامل الأمني والاقتصادي الى جانب السياسي على الرئيس والسلطة الوطنية، وحركة أهل فلسطين في الضفة والقطاع، وبعد خطاب بوش مباشرة إنطلقت بعض الأصوات الفلسطينية والعربية لتترجم “الموقف الأميركي” سريعا، فأخذت تنادي بضرورة إحداث “إصلاح ديمقراطي” في عمل مؤسسات السلطة الوطنية، وفجأة برزت قضية ضرورة تسمية رئيس للوزراء غير ياسر عرفات الذي كان بحكم القانون يشغل المنصب، وهو ايضا تنفيذا لاتفاق أوسلو، ولكن المخطط التصفوي بحث عن أدوات لتحقيق الغاية الأساسية وهي أن تصفية الرئيس ياسرعرفات، تبدأ بتصفية قوته ومكانته وزعامته قبل التصفية الكلية لوجوده..
..نواصل إن كان هناك وقت للتواصل!