بقلـم : حسـن عصفور
لا شك في أن الـمتابع للتطورات الخاصة بالـموضوع الفلسطيني ــ الإسرائيلي منذ رحيل الزعيم الخالد ياسر عرفات وانتخاب أبو مازن رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية يلاحظ أن الولايات الـمتحدة أخذت بالتحرك الإيجابي والنشط من أجل إعادة ووضع حدٍّ للـمواجهة الـمسلحة التي بدأت بالعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في 29 أيلول 2000 بعد يوم من الزيارة الـمشؤومة لأرئيل شارون في 28 أيلول 2000 (والذي أصبح رئيساً للوزراء في إسرائيل منذ شباط 2001) وما رافقها من رد فعل عسكري فلسطيني بعضه نال رضى، وبعضه لـم ينل. وإن كان الغالبية الـمطلقة من الشعب الفلسطيني قد أيّدت مجموع العمليات العسكرية الفلسطينية كفعل مقاوم ضد العدوان والاحتلال الإسرائيليين، خاصة مع وقبل أحـداث أيلول 2001.
إن السنوات الأربع والنصف الـماضية أكدت أن الانتصار الـمطلق لن يكون لطرف على حساب طرف في صراع معقد وشائك كالصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي. وأن استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية كأداة تفاوضية في الـمعادلة السياسية لن ينتج حلاً يؤدي إلى السلام والأمن والاستقرار، على العكس تماما فالعدوان الهمجي قد أنتج ردّ فعل عنيفاً، وألحق بإسرائيل خسائر مادية وسياسية لن يستهان بها، دون إغفال أن شعبنا قد دفع ثمناً باهظاً لهذا العدوان أيضاً.
ولعل الظروف الراهنة ــ بعيداً عن عناصر اللحظة السياسية ــ تشير إلى أن الأمور سائرة في اتجاه غير الاتجاه الذي شهدته الـمنطقة في السنوات الـماضية، والـمؤشر يميل إلى إعادة الوعي للحالة السياسية، بين الطرفين، باعتبارها الطريق الأكثر ملاءمة للوصول إلى تحقيق الأهداف التي تكفل لكل طرف العيش في إطار دولته بأمن وسلام.
ودون أن يحاول البعض إقحام القوة الهمجية كعنصر مقرر في الحصول على انتقاص مما يجب أن يكون للطرف الآخر. فإسرائيل عليها أن تعي جيداً درس السنوات الـماضية، فبعد أن استخدمت كل ما لديها من أشكال قوة تدميرية محلية ضد السلطة الفلسطينية وشعبنا، ولـم ينقصها سوى استخدام أسلحة الدمار الشامل، ومع ذلك لـم تحقق هزيمة الشعب الفلسطيني بل العكس. وكذلك على القيادة الفلسطينية ومختلف القوى السياسية والوطنية أن تدرك بالـمقابل أننا لن نهزم إسرائيل عسكرياً، لذلك فإن اللحظة الراهنة بكل تعقيداتها يمكن أن تكون مدخلاً للعودة للحل السياسي الذي توقف فعلياً منذ سنوات عدة.
وإن كان هذا الإدراك ضرورة لكلا الطرفين فإن الضرورة تزداد أهمية لإدراك أميركا هذه الحقيقة، والتي تحتاجها ربما أكثر من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، لأن الولايات الـمتحدة ساهمت بشكل كبير في حالة التدهور السياسي، الذي حدث في الـمنطقة جراء سياسة حمقاء، لـم ترَ إلا بالعين اليهودية ــ الإسرائيلية، فأضاعت إحدى أهم الفرص التاريخية، لوضع حدٍّ للصراع القائم منذ ما يزيد على مائة عام، وصولاً إلى مساومة تاريخية تؤدي إلى مصالحة تاريخية واستخدمت منطق القوة العمياء وعدم إدراك قوة الـمنطق الضروري للحل فكانت التجربة الـمأساوية في قمة كامب ديفيد، تموز العام 2000، واكتفت بالهروب الكبير عبر بوابة الاتهام للطرف الفلسطيني.
هذا الـمنطق الهروبي والذي تكرر لاحقا في عهد بوش ـ الفترة الأولى ـ خاصة مع تسلـم أبو مازن رئاسة الوزراء لن يجد له مكانا فاعلا في اللحظة الراهنة… إن الولايات الـمتحدة قبل إسرائيل وفلسطين تتحمل في هذه الـمرحلة التاريخية مسؤولية تاريخية من نوع خاص لإعادة الـمسار للحل السياسي كي نصل بالقطار إلى محطته الأخيرة التي يحتاجها الجميع فلن تكون محطة لطرف على حساب طرف آخر.
وعندما نتحدث عن مسار الحل السياسي الذي يؤدي إلى نتيجة سياسية، فالـمطلوب هو العودة إلى البحث عن الذات الـمفقودة منذ كانون الثاني 2001، حيث تمكن الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي من صياغة وثيقة عرفت \”بوثيقة طابا\” والتي تحمل في طياتها عناصر الحل النهائي الـمطلوب الـممكن والـمتوازن بعيدا عن عقلية السيطرة / الهيمنة على شعب آخر بعيدا عن عقلية القهر واللصوصية السياسية التي تحاول حكومة شارون ممارستها.
إن الأحداث اليومية الجارية والتي تبتسم لها الإدارة الأميركية مشجعة لها، هي بالإجمال عناصر إجرائية توقف الاشتباك الـمسلح العلني وتخلق أجواء من التهدئة أو الهدوء وتعيد بعضاً من الأمل إلى الحياة السياسية.
إن مختلف الإجراءات التي ينادي بها الجميع حتى اللحظة خطوات مطلوبة، ولا بد منها، فلا خلاف على أنها تشكل نقطة الانطلاق نحو الـمسار الـمطلوب.
لكن الـملاحظ أن هناك هروباً جماعياً من الحديث عن رؤية الحل النهائي والاكتفاء بالحديث عن \”خارطة الطريق\” بكل ما تحمله من دهاليز لإضاعة الوقت. وبأنها خطة نتاج أزمة سياسية حادة، طابعها كان أعمالا عسكرية متبادلة، ولذا جاءت الوثيقة وهي تحمل في طياتها انعكاس الأزمة الحادة السائدة بين الطرفين.
لذا فإنني أقترح أن يتقدم الجانب الفلسطيني برؤياه للحلّ النهائي بعيدا عن خطة \”خارطة الطريق\” ولدينا ما هو أكثر جدوى ومنفعة منها.
إن \”وثيقة طابا\” تشكل مدخلاً جوهرياً لوضع حدٍّ للصراع القائم بين الطرفين، خاصة إذا ما تم تعزيزها برؤيـة الرئيس الأميركي جورج بوش، حول إقامة دولتين متجاورتين، وما رافق ذلك من قرارات مجلس الأمن الـمعززة لإقامة دولتين.
إن الرئيس الأميركي، الذي أعلن في خطابه الأخير حول (حالة الاتحاد) أن الدولة الفلسطينية في متناول اليد، حقيقة تجد عناصر الوصول إليها في وثيقة طابا وليس في خارطة الطريق. ولكي تصبح تلك الدولة حقيقة قائمة، على الولايات الـمتحدة، وهي تدعم مجمل الإجراءات التي يقوم بها الطرفان (الفلسطيني والإسرائيلي) ألا تغفل أن تلك الإجراءات لن تنتج سلاماً وبالتالي لن تحقق أمناً أو استقراراً بل تهدئة مؤقتة قابلة للاشتعال في كل لحظة مع حماقة جندي أو مستوطن أو رد فعل غاضب من قبل فلسطيني يشعر بامتهان كرامته.
إن البعض يعتقد أن مثل هذا الطرح يشكل مغامرة سياسية ليست آمنة، وبالتالي غير مطلوبة في هذا الزمن، وأرى العكس تماما؛ فالوقت الراهن هو الأفضل للعمل على تقديم تصوّر شامل للحل النهائي، خاصة أننا نمتلك ما يزيد على 80 % من عناصر ذلك البناء ولا نحتاج سوى إلى عمل جدّي وجاد لإنجاز ما تبقى من ذلك البناء، ولعلني لا أغامر إذا ما قلت: إن الـمصالحة التاريخية لا تحتاج سوى إلى زمن قياسي تاريخي قد لا يزيد على فترة 4 ـ 6 أشهر …
هذا هو الـمطلوب من أميركا الآن، وعليها ألا تضيع الفرصة التي أضاعتها قبل وبعد كامب ديفيد.
وعلى الطرف الفلسطيني والعربي أن يدرك أن تلك هي البداية التي لا بدّ منها مهما عملنا من إجراءات.
ملاحظة: لعل الوقت الراهن هو الأنسب للطرف الفلسطيني بأن يتقدم بوثيقة تاريخية لحلّ تاريخي موازٍ لـما يقوم به من صياغة للوضع الداخلي.
14 شباط 2005