كتب حسن عصفور/ لم يفت متابعو خطاب الرئيس محمود عباس أن يلاحظوا مدى \”نشوته\” السياسية خلال القاء الخطاب، وأعاد المتابعون تلك \”النشوة العالية\” فيما نجح به مع حركة حماس في توقيع المتفق عليه سابقا، وهو على عكس آخرون كان يعلم يقينا أن توقيع حماس في هذا التوقيت ربحا صصافيا له، وقبل انعقاد المجلس المركزي، الذي يحتاجه لتجديد \”شرعيته\” التي حاولت حماس قضمها خلال سنوات، وقبل انتهاء الفترة الزمنية المحددة للمفاوضات، فذلك بالنسبة له \”تنازلا سياسيا حمساويا\”، يساعده في التحكم بمسار المشهد الداخلي القادم، وأن توقيعها هذه المرة جاء من خلال اهتزاز كبير لحضورها ومأزق يخنقها، فأجبرت مرغمة على الرضوخ والتوقيع..
ولو كان غير ذلك لأجلت حماس كل ذلك لما بعد انتهاء دورة المجلس المركزي وانتهاء يوم 29 ابريل ( نيسان) باعتباره اليوم الرسمي لانتهاء الفترة التفاوضية، لكنها لم تنتظر، فكانت \”النشوة العباسية\” التي جسدها خطابه، حيث أظهر بلغة حازمة حاسمه أنه \”الآمر الناهي\” للحكومة القادمة، ولم تخنه الكلمات بقوله أنها \”حكومتي\” و\”تأتمر بأمري\”، وستعترف بالاتفاقيات الموقعة وتعترف بدولة اسرائيل، وتنبذ الارهاب، لغة سياسية لم يكن ليستخدمها بهذا \”النزعة الفردية\”، لو لم تأت حماس الى حيث أتت وفي هذا التوقيت تحديدا..
ومع تلك \”النشوة الخاصة\” كان على الرئيس عباس، أن يدرك أن الحكومة المقبلة أو أي حكومة في ظل القانون الأساسي هي حكومة الشعب الفلسطيني، تفرضها موازين قوى الانتخابات البرلمانية، وهي فعليا ليست حكومته، ولا تأتمر بأمره، لو أنه راجع القانون الأساسي جيدا، بل أن رئيس الوزراء يملك صلاحيات تجعله \”شريكا في الحكم\” وليس مسؤولا أمام الرئيس بل أمام المجلس التشريعي، وتلك الخطة التي رسمتها واشنطن مع بعض الفلسطينينين لحصار ياسر عرفات وازاحته من المشهد.. \”لو كنت ناسي أفكرك\”!..
يمكن اعتبار الحكومة، حكومة الرئيس في ظل الانقلاب وتعطيل المؤسسات الشرعية، وغياب هيئات الرقابة، ولذا كل حكومات ما بعد يونيو ( حزيران) 2007 هي حكومات الرئيس فعلا، لكن أي حكومة توافقية، او في ظل عودة المجلس التشريعي لن تكون كذلك، لذا فالرئيس جانبه الصواب كليا وهو يستخف بالحكومة التوافقية ويضعها في اطار أحد مؤسسات الرئاسة، وربما يشكل ذلك الخرق الأول لاتفاقات المصالحة..ويلاحظ الجميع ان خطرا مقبلا جسدته لغة الرئيس عباس من خلال تلك النبرة الفردية ذات النزعة الديكتاتورية وهو يتحدث بصفة \”الأنا\” التي يمكن اعتبارها فعلا مستحدثا يشكل خطرا مباشرا على الديمقراطية الفلسطينية..
ولو تركنا جانبا، تلك الملاحظات الخطرة، فإن الأخطر ما جاء في قوله بأن الحكومة المقبلة ستعترف بدولة اسرائيل وتنبذ الارهاب وتلتزم بالاتفاقات الموقعة، كان ذلك القول قد يكون صحيحا لو أن الرئيس عباس قاله في الخطاب الأول لحكومة حماس بعد الانتخابات عام 2006، والتي ضربت عرض الحائط بخطاب التكليف ولم تقم وزنا لعباس وخطابه، وبدلا من اقالتها وفقا للقاون، صمت الرئيس عباس، وكان ما كان لاحقا من زرع بذور الانقسام الى أن انتهى بانقلاب عام 2007، ولكن الآن ان يعيد مثل تلك الأقوال، فهو يتجاهل كليا، بل ويقفز عن حقائق سياسية هامة، وتاريخية أيضا..
الحكومة المقبلة لا يجب أن تكون حكومة سلطة وطنية، بل يجب اعتبارها حكومة \”دولة فلسطين\” لتأكيد شرعية قرار الأمم المتحدة، وهو ما يتطلب اعادة صياغة رسائل الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير ودولة الكيان، اي مطلوب من اسرائيل أن تعترف بـ\”دولة فلسطين\” كشرط لتجديد الاعتراف بها، ودون ذلك لا يحق لحكومة \”دولة فلسطين\” ولا غيرها القيام باي خطوة قبل تصويب مفهوم \”الاعتراف المتبادل\”..
أما ما يعرف بالاتفاقات الموقعة، فهي اصبحت عمليا جزءا من تاريخ العلاقة السياسية بين منظمة التحرير ودولة الكيان، ولم تلتزم اسرائيل بتنفيذها كما يجب، وانتهكتها بكل السبل المتاحة لها، ولذا فالحديث عنها اليوم، ليس سوى مناورة سياسية بائسة، وآن الآوان لمراجعتها، وتعطيل كل ما يخالف قرار الأمم المتحدة الخاص بقبول دولة فلسطين عضوا مراقبا بصفتها \”دولة\”، بما في ذلك ميثاق منظمة التحرير الذي يحتاج لتطوير وفق القرار الدولي وليس اتفاقات موقعة لم يبق لها اثر سوى ما تم دفع ثمنه اضعافا مضافعة..المسألة هنا ليس ترداد عبارات محفوظة كآلة تسجيل تقال في كل مناسبة دون مراجعة أو تدقيق..كل ما سبق الاتفاق عليه يجب مراجعته كليا وفق درجة التزام دولة الكيان به..وهي المطلوب منها أولا، وقبل حكومة \”دولة فلسطين\” تنفيذ ما التزمت به، ودون ذلك يصبح كل شيء \”كادوكا\”..أي تقادمت وعفى عليها الزمن، كما وصف الخالد ابو عمار يوما ميثاق منظمة التحرير!
الموضوع ليس تقديم مظهر معتدل للعالم على حساب جوهر القضية الوطنية، فالمسألة ليس حساب شخصي يراد تسويته، بل هي قضية وطنية شمولية يجب حلها وفقا لما يملك شعبها، خاصة وان سلاحه بالشرعية الدولية أصبح أكثر وضوحا ورسوخا..انتهى عهد الكلام عن \”الاعتراف المتبادل\” دون تعديل لمضمونه وانتهى زمن الكلام عن الاتفاقات الموقعة دون مراجعة..كلها باتت \”كادوكا\” يا سادة!
ملاحظة: من اهم مفاجآت ردود الفعل على خطاب عباس كان موقف حماس المرحب به..فعلا الآن تأكد أن \”المصالحة\” ماشية دون عقبات سياسية..لو قال عباس ما قاله قبل ايام فقط لسمعنا من الصفات ما نخجل من اعادة نشره..ارزاق!
تنويه خاص: لا أظن أنه كان مناسبا لرئيس دولة فلسطين أن يسخر من الرئيس الاخواني المعزول مرسي..الرئاسات مقامات ، والسخرية هنا ليست في مكانها..والسخرية لن ترضي مصر الثورة أيضا!