كتب حسن عصفور/ قد لا يتذكر كثيرون من غير أهل الاختصاص، من شبه جزيرة القرم غير المدينة الشهيرة باسمها “يالطا”، والتي سجلت اسمها في التاريخ مع نهاية الحرب العالمية الثانية عندما التقى الزعيم السوفيتي آنذاك، جوزيف ستالين وقادة الحلقاء، الرئيس الأميركي روزفلت والبريطاني تشريشل والفرنسي ديغول، مدينة ارتبط اسمها باتفاق لوضع ترتيبات سياسية لما بعد هزيمة الفاشية، واعتبرها مؤرخون أنها كانت اتفاقية لتقاسم “النفوذ السياسي” دوليا..
ولسنا في مجال بحث التاريخ ومدى حقيقة ما ورد في تلك الأقوال، لكن الأهم هو اعادة التذكير بان المدينة الأشهر عالميا في شبه الجزيرة، تعود اليوم في مظهر عسكري جديد، قد يصل الى حافة الهاوية كون المعركة تدور على “رقعة استراتيجية” لمفهوم السيطرة العسكرية القادمة خلال السنوات المقبلة على “شبه الجزيرة”، التي كانت جزءا من الدولة الروسية بقرار ستاليني، وضمها خورتشوف الى اوكرانيا في منتصف القرن الماضي لتعزيز “عرى الاخوة السوفيتية”، ولم يخطر بخلده يوما ان تلك الرابطة الأخوية ستتبخر في لحظة سياسية، لتنتقل مشاعر بعض “الرفاق” نحو الغرب الاستعماري..
روسيا الاتحادية وبقيادة فلاديمير بوتين نصبت “كمينا سياسيا تاريخيا” للادارة الأميركية وتحالفها الغربي، عندما اظهرت وكأننها تخلت عن اوكرانيا كساحة خلفية، حتى سارع بعض كتاب وساسة عرب وعجم، باعتبار ما حدث يشكل “ضربة قاصمة” للطموح الروسي، بل أن بعض صغار كتاب عرب ممن هم مصابون بهوس العداء التاريخي لروسيا، ولكراهية موقفها من المسألة السورية، رأوا ان تلك صفعة كبرى وجهه اوباما على وجه “القيصر” تعويضا عن صفعة سوريا..سريعا وقعوا في مهزلة القراءة السياسية لتطورات أوكرانيا..
فات البعض أن المندوب الروسي لم يوقع اتفاق فبراير الذي حدث قبل ايام، وشهد عليه الغرب لحل الأزمة الداخلية في اوكرانيا، اتفاق لم تحترمه المعارضة التي استندت للغرب في معارضتها، واخلت بكل شروطه واسقطته عمليا، وسارعت واشنطن بتأييد المعارضة فيما أقدمت عليه، وخانت الاتفاق، واعتبرت أن ذلك حق لها، معارضة لم تكن تشكل غالبية كبيرة لكن واشنطن رأتها كذلك، فيما هي تجاهلت معارضة أكثر من 30 مليون مصري للاخواني محمد مرسي الرافضة لحكمه، واصرت واشنطن ان اساقط مرسي يجب أن يكون بالصندوق..ولكن تلك مقاربة اخرى لا مكانها الآن.
المناورة الروسية حول الأزمة في أوكرانيا بدأت مع عدم توقيع مندوبها على الاتفاق المذكور، كون المسألة الجوهرية التي تهم الدولة الروسية ليس من سيكون رئيس اوكرانيا، ولا طبيعة الحكم بها، ولكن القضية المركزية هي المصلحة الاستراتيجية الروسية في “شبه جزيرة القرم”، خاصة التواجد البحري والقاعدة العسكرية لروسيا بتلك المنطقة، والتي لم يبق لها من الزمن سوى بضع سنوات لتنتهي اتفاقية حق الروس بالتواجد فيها، وفقا لاتفاقية عام 1991 وتنتهي عام 2017..
من هنا تبدأ المعركة الكبرى، روسيا تدرك أن مستقبل اوكرانيا السياسي ليس مضمونا ولن يكون في إطار “عرى الإخوة” الذي بحث عنه خورتشوف عام 1954، بل قد يمثل تهديد استراتيجيا على روسيا، لو أن الحكم الإوكراني لم يجدد لروسيا المعاهدة التي تمنحها حق التواجد العسكري – البحري على شواطئ تلك الجزيرة، ما قد يمهد استبدالها بقوات من حلف الأطلسي، لتصبح تلك البقعة قاعدة اطلاق معادية للدولة الروسية وتبدأ رحلة من حصار عسكري في ظل تنامي الدور الروسي..ويعود للتاريخ العدواني المنطلق من تلك البوابة حضوره.
المناروة الروسية والدخول الى حافة الهاوية، ليست لعبة، تنتهي بهاتف أو تهديد بمضايقة تجارية أو أزمة سياسية ديبلوماسية، بل هي خطوة لحماية “الأمن القومي الروسي” والمصالح الاستراتيجية بتلك المنطقة التي يشكل السكان الروس بها غالبية، يطالبون بالتدخل العسكري الروسي لحمايتهم من أخطار “القوميين المتطرفين” الاوكرانيين، التي استخدمها بوتين في سجاله السياسي – الاعلامي مع قادة دول الغرب، وهم الذين يعلمون تماما أن جوهر الحقيقة ليس حماية سكان فحسب، بل حماية مصالح روسيا الدولة والتي تستحق منها “المغامرة” حتى لو وصلت الى “مواجهة بعضها عسكري أو سياسي”..
المعركة في اوكرانيا بالنسبة لروسيا ليس سوى معركة “القرم”، وليذهب غيرها الى “جحيم الغرب”، فتلك لم تعد قضية تثير اهتمام روسيا، خاصة مع ازماتها المالية والاقتصادية الكبرى، بل أنها قد تصبح معضلة للغرب الراكض خلفها لاحقا..
معركة القرم الراهنة هي معركة لتحديد ملامح “الخريطة السياسية الدولية”..فانتصار روسيا سيعيد مجددا أن “يالطا جديدة” ولكن بشكل مختلف من حيث القوى والأهداف قد تحضر..روسيا يمكنها أن تدخل حربا عسكرية شاملة قبل أن تسمح لأحد ان يعبث بمصالحها الاستراتيجية في تلك المنطقة..المسألة بالنسبة لها ليست “معارضة وموالاة” وطبيعة نظام حكم سياسي، وليس بحثا عن هذا النظام أم ذاك، فهي تبتعد كثيرا عن تلك المناورة الغربية..لكنها قضية مصلحة تخليها عنها يعني بداية لاعادتها الى مجال السيطرة الغربية الاستعمارية عليها!
هل نصب بوتين كمينا جديدا للرئيس الأميركي في “مصيدة اوكرانيا”..المؤشرات تقول نعم ..ويبدو أن اوباما تحول الى “لعبة” بيد “الدب الروسي” او “القيصر العصري”..
درس أو دورس قد تكون مفيدة لفئة من الكتبة المصابة بعقدة وحقد وكراهية من وراء المسألة السورية..صفعة ثانية للرئيس الأميركي وجهها بوتين وليس العكس..وقادم الأيام سيظهر كثيرا مما يجهلون..
ملاحظة: نواب الشعب الفلسطيني قرروا قبل ايام التحرك الفوري والسريع لمحاصرة مخطط دولة الاحتلال ضد القدس..هل لا زالوا يذكرون أم ان “مشاغلهم الكبرى” انستهم”!
تنويه خاص: يبدو أننا نحتاج لاتفاق جديد بين طرفي المصيبة في “بقايا الوطن” من اجل صياغة لوقف “التحريض المتبادل”..بعد أن سقطت الاتفاقية السابقة بعد ساعات من الاتفاق عليها..تخيلوا هيك مصايب ممكن تتصالح!