كتب حسن عصفور/ لا تشكل محاكمة قيادي اخواني، مهما كان منصبه أو شأنه اي قيمة جوهرية في المشهد العربي العام، فسبق أن حدث ذلك، ولعل اشهرها تلك المحاكمة التي أودت بمنظر “الفكر التفكيري” المعاصر سيد قطب الى غرفة الاعدام، لكن مصر والعالم يشهد اليوم ما هو جديد كل الجدة فيما سيكون حيث تبدأ محاكمة أول رئيس اخواني منتخب في العالم العربي، والتحديد بالمنتخب هنا للتمايز عن الرئيس الإخواني في السودان الذي جاء عبر انقلاب عسكري لازال مسيطرا، محاكمة مرسي قد تدخل التاريخ من باب مختلف عن محاكمة رئيس بتهمة فساد أو قتل، ستتجاوز ذلك كثيرا..
المحاكمة المعاصرة للرئيس الإخواني ستنتقل من قصف الاتهام الى الشارع المصري والعربي، لتبدأ معها محاكمة “جماعة” ارتدت ستارا دينيا لتشق منذ تأسيسها طريقا انعزاليا خاصا عن “الكل الوطني” حيث تتواجد، ستبدأ محاكمة الجماعة الإخوانية منذ التأسيس وحتى خطفها الحكم في مصر بطريقة غامضة، ثم “صناعة المسرح” لإصطياد الصندوق الانتخابي ضمن حسابات دولية وإقليمية لم تعد خافية على من يعيش في “وهم الخدعة التصويتية”..
المحاكمة والمحكمة لن تقتصر اليوم، على مظهر خاص بمصر بل تفتح الباب واسعا لاعادة قراءة التاريخ الخاص بالجماعة الإخوانية، منذ أن قرر مؤسسها الأول معلم المدرسة حسن البنا اعلان تلك الجماعة، بتفاهم علني مع القصر الملكي والمندوب السامي البريطاني، وتم اختيار مدينة الاسماعيلية، البعيدة كل البعد عن مسقط رأس البنا في محافظ البحيرة – بلدة المحمودية في قرية الشمشيرة- ، لكنها كانت مقرا لهيئة قناة السويس التي قدمت أول تبرع لجمعية البنا، مقداره 5 آلاف جنيه مصري، وفي حينه يعتبر مثل ذلك المبلغ ثروة طائلة، ولكن الأهم لم يقدم البنا أو الجماعة لاحقا لماذا تقدم هيئة قناة السويس الخاضعة كليا للاستعمار البريطاني مثل هذا الدعم الكبير لمعلم مدرسة غير معلوم..لكن تاريخ مصر لاحقا كشف سريعا أن المهمة الأبرز للبنا وجماعته كانت التصدي لحزب “الوطنية المصرية” – الوفد – المناهض للملك فؤاد والاستعمار البريطاني..مسار بدأ يترسخ نهجا وسلوكا في سياسة الجماعة الإخوانية لاحقا، ليس في مصر بل في المنطقة العربية..
واستنسخت ذات الدور بطريقة مختلفة بالمظهر، في فلسطين، عندما انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 بقيادة احمد الشقيري بموقف معادي لها، ولكن العداء الأبرز تجسد في موقفها من الثورة الفلسطينية والكفاح المسلح بعد العام 1967، عندما تنصلت من المشاركة الفعلية بالثورة بل أنها التجأت لطريقة تكفير الثورة وشهدائها حت قررت في ظرف تاريخي معقد باعلان حركتها “حماس”..سلوك نابع أنها هي دون غيرها صاحبة “الحق المطلق” وأنها “جماعة فوق الجميع”، والذي عليه أن يكون طوعا بيدها ولخدمتها، ومن يخرج عن ذلك النص يدخل في باب “المحرمات الالهية” يصبح “كافرا مردتا”..
خلال التحضير لثورة 23 يوليو، كان لها اتصال ببعض بمجلس الضباط الأحرار، وحاولت قبل وبعد الثورة الهيمنة والسيطرة على قرار المجلس، رغم أن ضباطها كانوا اقلية، بل أن ضباط اليسار المصري كانوا أكثر حضورا وأهمية في المجلس من ممثلي الجماعة، لكنها اعتقدت أن الفرصة موالية بحكم “الجلباب الديني” لخطف الثورة المصرية الوليدة، وحرضت عبد الناصر على القيام بالتخلص من القائد العسكري البارز، الذي لعب دورا حاسما في انتصار الثورة، العقيد يوسف صديق، لكونه “شيوعيا”، ومحرضا لاضراب العمال الذي ادى لاعدام اثنين من عمال مصر، في بصمة سوداء لثورة يوليو..وعندما فشلت محاولة خطف ثورة يوليو عادوا للحديث عن “الديمقراطية” ومواجهة “حكم العسكر”، بل وحاولوا التعاون مع شيوعي مصر..لعبة مزدوجة تزامنت مع “جماعة” تستغل كل الظروف كي تحقق “ما تريد” عبر أهداف لا تزال ضبابية..
ولأن الجماعة لا تتعامل بوضوح وشفافية فإنها تمارس السياسية ضمن لعبة غموض كامل، فلا تحالفات دائمة ولا صداقات دائمة وطبعا لا عداوات واضحة..جماعة تصيغ موقفها ضمن الممكن، وتنقلب رأسا على عقب في اي مرحلة ترى أن مصلحتها الخاصة، دون حساب لمصلحة وطن أو قضية وطن..شعارها الدائم هو أن “الجماعة فوق الجميع” يجب ان يكون حاضرا في كل ما تفعل..تاريخ التحالفات للجماعة لم تكن يوما ضمن رؤية وطنية عامة، فهي بالأصل جماعة بلا برنامج سياسي، ولا رؤية محددة لحل المشاكل الاجتماعية – الاقتصادية، بل أنها لا تضع استلامها السلطة جزءا من “ادبياتها”، ليس ترفعا ولا تعففا بل جزءا من “الانتهازية السياسية” التي تحكم منهجها وسلوكها ونهجها، لأن استلام السلطة كجزء من البرنامج سيضعها مباشرة في صدام مع السلطة القائمة، وهي لا تريد ذلك، لعبة بدأت منذ نشأتها وباتت نهجا ثابتا..
وبمراجعة كل سلوك الجماعة الاخوانية وقراءة تحالفاتها مع القوى أو الأنظمة لن نجد هناك خلافا جوهريا، يمكنها “تقبيل يد الحاكم” وتكفر كل مخالف له، ثم وبعد فترة نجدها نقيض النقيض..فمصلحة الجماعة هي الناظم لسياسة “تقبيل الأيادي” وتكفير من تريد..منهج التحالفات التاريخي للجماعة هو الكاشف الأهم لانتهازيتها النادرة، وتجربة مصر الأخيرة خير حاضر، كما فلسطين في مرحلة معينة وقبل خطفها السلطة تصويتا ثم انقلابا..ففي مصر تحالفت مع القوى “العلمانية والليبرالية والمدنية” من أجل أن يفوز مرسي، وبعد ان فازت برئيسها حدثت الخيانة والانقلاب على العهد، وبدأت حركة تكفير ممنهج لمن تحالف معها..خطفوا ثورة مصر، وتحدثوا عنها وكأنهم أصلها، حدث في مصر وتونس ذات الموقف، بل وفي فلسطين وكأنها صاحبة مشروع “المقاومة” مفجرته، وهي من أتي بعد 20 عاما لحسابات سياسية سيكشفها تاريخ قادم..
الجماعة التي لا تؤمن بالنسيج الاجتماعي الوطني، لا يمكنها ان تؤمن بأن هناك وطن وقضية..من يراقب سلوك الجماعة الاجتماعي سيرى أن “الاقصاء” هو سيد نهجهم، علاقاتهم في الزواج والتقارب “اخوانية” قدر المستطاع، لا يثقون بغير انصار واعضاء جماعتهم..ومن لا يثق بغير عشيرته وجماعته، لا يمكن ان يكون حاكما صالحا..الفساد السياسي الاقصائي هو جزء أصيل في منهج الجماعة..لا أمن لها ولا أمان.. مقولة للزعيم الخالد جمال عبد الناصر لم تأت من فراغ، كانت ثمرة تجربة ومعرفة، ولا تزال حاضرة بقوة في عالم السياسة الراهن..
محاكمة مرسي اليوم يجب أن تكون “محاكمة” لجماعة لا تؤمن الا بذاتها، جماعة لا تؤمن بالتحالف الوطني الا فيما يخدمها، تضع معيار الكفر والايمان حسبما تكون، تقبل الايادي عند الضرورة، وتدعو لكسرها وقتما تشعر أن الزمن بات ممكنا..تصبح طيعة جدا الى حد الاذلال لو كانت المصلحة تتطلب، وتنقلب كنسر جريح عندما ترى الفرصة مناسبة.. سلوكها مع كل النظم العربية بدأت بتقبيل اليد وانتهت الى “الرجم الممكن”..تاريخ حافل بالأمثلة يصعب تعدداها..لكن فقط ليراجع كل سلوكها مع السعودية ودول الخليج والاردن والعراق وسوريا والجزائر والمغرب والسودان..وفي فلسطين ظاهرة خاصة جدا، تتحدث عن تكفير المقاومة وقتما تحب وتجعلها “مقدسة” عندما تحب!
محاكمة لا يجب أن تتوقف عند محاكمة رئيس في مصر بل لجماعة لم يكن لها أمن سياسي في المنطقة منذ التاسيس الأول..محاكمة قد تكون بداية لفرض مراجعة فكرية – سياسية لتلك الجماعة علها تدرك أن الوطن ليس حقيبة!
ملاحظة: لا زال وهم فريق التفاوض سيد الموقف..رغم كل ما يعلنه ويمارسه نتنياهو لا زالوا مصرين على “العهد العباسي” لكيري.. ايهما الأحق “العهد لكيري” أم “العهد لفلسطين”..فكروا قبل ما تجاوبوا!
تنويه خاص: نفي حماس عن اعتقال احد عناصرها بمصر مصاب بالطعن حتى نعرف الحقيقة بشمول..فاعلان اسم محدد لا يأتي من فراغ!